لا يجادل أحد في أهمية وضرورة التكوين الأساس والتكوين المستمر، في أي مجال ،وبالنسبة لأية مهنة ، خصوصا اذا تعلق الأمر بمجال التربية والتكوين .
1- ضرورة التكوين المستمر:
لا يمارس المدرس مهنة التدريس، إلا وهو يمتلك رأسمالا ثقافيا يتضمن مجمل المعارف العامة والمتخصصة، والخبرات والمهارات المرتبطة بتكوينه الذي يترجم مساره الدراسي والمهني. ويظل التكوين الأساسي الذي تلقاه المدرس لتيسير الانتقال من طور التكوين الدراسي - الجامعي إلى طور التأهيل المهني منعطفا حاسما يجتاز خلاله معاناة التكيف مع متطلبات المهنة وما يصاحبها من خلخلة للأوهام، ومن كشف عميق للقدرات الذاتية ضعفا وقوة في مجال التدريس والتأطير، وذلك في إطار التجربة الميدانية التي يمارسها المدرس المتدرب في القسم الدراسي (التعليم المصغر).
يلج المدرس القسم لممارسة عمله التربوي الميداني، ومتابعته لسنوات طويلة، وهو في كل يوم دراسي، يعمل جاهدا لإنجاح العملية التعليمية - التعلمية الهادفة إلى تمهير التلاميذ على المعارف والكفايات الضرورية المتضمنة في البرنامج التعليمي. والمدرس له وعي حاد بأهمية التجديد المتواصل للمعارف والطرائق، والتحسين المستمر للعلاقة التربوية لتحقيق التواصل الفعال مع المتلقي، حتى يتم التكيف مع التطورات المتسارعة في مجالي العلوم والتكنولوجيا، وفي مجالات الاقتصاد والاجتماع والثقافة. وكلما تخلف المدرس عن مواكبة التجديد المتواصل لدوره البيداغوجي، كلما حصل التباعد بينه وبين المتلقي، وبينه وبين مستوى تطور المعارف والعلوم الشيء الذي يتطلب مراجعة تكوينه المهني، ومن هنا ضرورة التكوين المستمر.
لذلك فإن من أهم التغيرات الأساسية في مجال التعليم هو اضطرار العديد من البلدان النامية ومنها المغرب، إلى مراجعة غايات ومرامي وأهداف النظم التعليمية وأدوارها لتواكب التحولات التي يعرفها العالم المتقدم، والتي تتطلب مراجعة شاملة لطبيعة القيم ونوع المهارات والكفايات التي يجب على المتعلم اكتسابها ليتمكن من الاندماج المهني ومن التأقلم مع المتطلبات المعرفية والتقنية لمختلف التكوينات والمهن الجديدة.
ولا شك أن مراجعة أهداف ومرامي التعليم وبرامجه تتوقف أساسا على تحيين مواصفات المدرس البيداغوجية، ومده بالكفايات المطابقة ليتأتى له ممارسة مهنة التدريس كفن، وكعمل إجرائي يتوخى بلوغ أهداف تربوية وتكوينية.
وإذا كان المدرس المتخرج في حاجة إلى تكوين أساسي ليقوى على ممارسة مهنته، فإن المدرس الممارس المتقادم في المهنة، في حاجة ماسة إلى مراجعة تكوينه، وتحسين قدراته، باعتبار أن أساسيات التكوين الذي يتوفر عليه، قد تبلور في سياق مرحلة كان فيها التعليم كتوجه ومحتوى لا يقترب بوضوح من مطلب الترابط الجدلي بين التكوين والتنمية، وبالتالي فإن المدرس اليوم مطالب بتطوير أدواره البيداغوجية والتربوية في سياق انفتاح المدرسة على المجتمع، الشيء الذي لم يكن متاحا في السابق حين كانت المدرسة متخلفة عن دينامية الحياة الاجتماعية المحيطة بها.
2. إصلاح البرامج والمناهج وأهمية استمرارية التكوين:
من التغيرات الهامة التي نص عليها الإصلاح التربوي الحالي بعد صدور الميثاق الوطني للتربية والتكوين (1999)، نجد بالأساس مراجعة البرامج والمناهج، حيث تم إعداد إطار مرجعي لعملية المراجعة،تضمنالإقرار باختيارات وتوجهات هامة تمحورت حول المجالات التالية:
- مجال القيـم.
- تنمية وتطوير الكفايات.
- المضامين الدراسية.
- تحديد مواصفات المتعلمين.
ويبدو أن مراجعة البرامج والمناهج في ضوء الاختيارات والتوجهات المشار إليها آنفا، تتطلب دراسة معمقة للتغيرات الحاصلة في المجتمع، لأجل وضع إطار نظري غير مغلق لمسألة القيم، وضبط الكيفيات الممكن تمريرها في البرامج والكتب المدرسية في أفق توضيح العلاقة بين قيم التراث وقيم الحياة العصرية، والربط بين الهوية المغربية والحضارة الكونية، من منظور عدم إمكان اختزال الحضارة في إطار مجتمعي واحد، لأن الحضارة تراث مادي ورمزي متجدد تساهم في إرسائه إبداعات الشعوب بشكل موصول، وهي تتقاسم فيما بينها نفس الثقافة والتاريخ والدين الواحد واللغة أحيانا.
كذلك فإن تنمية وتطوير الكفايات تتطلب استمرار تكوين المدرسين لأجل امتلاك أفق نظري واضح لهذه البيداغوجيا الجديدة، وتيسير إعداد طرائق التطبيق والإنجاز داخل المواد الدراسية المختلفة وفي انسجام مع خصوصيات المتلقي المغربي.
إن الجدال الدائر في العديد من المنابر حول تنمية الكفايات والعمل بها، أقوى مما هو مطروح في مجال تنظيم الدراسة وتحديد مواصفات المتعلمين ومجال القيم. لذلك فإن تطوير المساءلة التربوية والفكرية، لا يتأتى إلا في سياق التكوين المستمر الذي يتيح المجال لتداول الأفكار وتصحيحها وتجريب خطط التدريس الناجعة، وبلورة الانتقادات الموضوعية للمنتوج التربوي القائم، وتصحيحه من منطلق الإقرار بمبدأ المراجعة الايستمولوجية الدائمة للأفكار والمعارف بفعل تطور أنماط المعرفة والخبرة وتعقيد مقاربات الظواهر المختلفة. لذلك لا يمكن أن يكون العمل البيداغوجي ناجعا وفعالا إذا كان المدرس يجهل الإطار المرجعي للكتاب المدرسي الذي يستعمله في التدريس، وإذا كان لا يسائل باستمرار الأدوات والطرائق التي يستخدمها في عمله.
3. التكوين المستمر ومفهوم الحاجات:
يدل مفهوم الحاجة على وعي المدرس الممارس بحدود ممارسته، ورغبته الملحة في تطوير تكوينه المهني، وحيازة الآليات التي تمكنه من الارتقاء بممارسته التدريسية، سواء لجهة العمل على تجريب بيداغوجيات جديدة، أو لتطوير معارف وتعميقها، بهدف الارتقاء بشروط اكتساب المتعلم للمعارف.
علاوة على ذلك فإن العمليات السابقة للتكوين المستمر والتي تحققت بسبب مراجعة جزئية لبعض البرامج، أو بفعل إدراج بعض المداخل التربوية (التربية السكانية مثلا) لم تكن تنطلق من رصد حاجات المدرسين، وإنما كانت محاور التكوين تتحدد بشكل فوقي، وتقام العروض والندوات، وتوزع الكراسات دون أن يساهم المشاركون في هندسة التكوين المستمر.
لذلك، فإن إنجاح مشاريع التكوين المستمر يتوقف أساسا على إقرار تعاقد بيداغوجي بين المكون والمشارك، هدفه الأساس إقرار توافق حول الأدوار بناء على تفاوض مستمر لإنجاز برنامج تكويني يتسم بوضوح الأهداف والمحتوى، وبتحديد المتدخلين، ووسائل العمل والعدة البيداغوجية، وأداة التقويم...
أ- دور المكون:
إن وعي المكون بدوره البيداغوجي كميسر ومنشط للمشاركين (المدرسين المستفيدين) في إطار أوراش التكوين المستمر وليس كمصدر للمعرفة والخبرة، شرط لإمكانية تحرره من الأوهام التي تسكنه كذات بيداغوجية، ولن يتأتى إنجاح تجربته البيداغوجية إلا بمراعاة حاجيات المشاركين بشكل معقلن وذلك قبل انطلاق التكوين وأثناءه وبعد انتهائه. لأن هذه الحاجيات تتغير من مرحلة إلى أخرى وذلك بفعل استدخال المكتسبات المعرفية والإجرائية أثناء التكوين، سواء من لدن المكون أو بفعل التفاعل مع الأعضاء المشاركين.
تكمن القيادة البيداغوجية أساسا في امتلاك هندسة بيداغوجية تعتمد مقاربة نقدية واعية بذاتها، وبشروط تحققها، وبتقويم مستمر للمنجز البيداغوجي في تجاه تحسينه وتطويره، وباختطاط طريق تتوسط التعارضات المختلفة: النظري والتطبيقي، الثقافة العامة والمتخصصة، وإبداع التجارب، وتحويل وضعيات، لترصيد المكتسبات المعرفية، والبيداغوجية لبلورة خطط التدريس الكفيلة بمواكبة التطورات المعرفية المتلاحقة، وحفز المشاركين على تجريب بيداغوجيات مختلفة متداخلة وغير منفصلة وحرصهم على ممارستها بعد إشراكهم في بلورتها ومنها :
- بيداغوجياعلائقية تعاقدية/الجماعات الصغيرة.
- بيداغوجيا تعبيرية المشروع والتفاوض/ اللاتوجيهية.
- بيداغوجيا ثقافية سمعية بصرية/تقليدية/التعاقد.
- بيداغوجيا فاعلية العمل المستقل / الفارقية.
- بيداغوجيا التمثل التداخل الثقافي.
ب- دور المشــارك :
إن من أهم الشروط التي تيسر على المشارك اندماجه في أوراش التكوين المستمر إلى جانب زملائه المشاركين/أعضاء فريق التكوين، هو العمل على التحرر من المسبقات، ومن الإرث البيداغوجي الذي يتسم بالتكرارية والآلية والتمسك بالقديم، وبالنمطية في العمل البيداغوجي. وهو ما يضعف التخطيط العقلاني لعملية التدريس ويمنعها من التطور، ولعل من الأهداف الكبرى لبرنامج التكوين المستمر في أية شعبة من الشعب، هو أن تثمر تجربة التكوين الجماعية عن شعور المدرس بانتقاله من طور إلى طور، وإدراكه لمدى التغير الذي لحقه في المعرفة والفعل، بسبب انخراطه في المناقشة والجدال والحجاج، مما ساهم في خلخلة اليقينات الموروثة التي يعتنقها، والاحتضان النفسي للتجربة السابقة، وإقناعه بضرورة إعادة بناء تجربته ودمجها في بنية جديدة. هكذا ومن خلال النماذج البيداغوجية التي سوف يتلقاها سوف سيحاول استيعابها وتحويلها من النظرية إلى الممارسة، والعمل على تذليل الصعوبات والإكراهات التي تعترض تخطيط الدرس في إطار بيداغوجيا الكفايات مثلا؛ وهي فرصة تتيح للمدرس إشهار مكتسباته، ووعي جوانب الضعف والقوة في ممارسته التدريسية من خلال أنشطة الورشات والدروس التطبيقية.
ولا شك أن تقويم هذه الأنشطة من حيث مدى تحقيقها للأهداف المسطرة كفيل بالتقاء المكون وأعضاء فريق التكوين على تشخيص موضوعي لدور أوراش التكوين في تطوير العمل البيداغوجي وإقدار المدرس على مواكبة المستجدات في البرامج والمناهج الجديدة.
لذلك، فإن برامج التكوين المستمر التي تعمل الأكاديميات على إنجاحها، تجسيدا للأهداف التربوية المتوخاة منها، لن تتحقق إلا بوضع هندسة بيداغوجية، تتحدد من خلالها الأهداف، وأدوار المتدخلين، ومضامين التكوين، والعدة المستعملة، وآليات إشراك المستفيدين تخطيطا وتنفيذا، وتقويم الأنشطة من حيث المردودية، والنجاعة، وتتبع التدريس في الوضع الميداني لمعرفة مدى تمكن المدرس من تحويل مفاعيل التكوين المستمر إلى كفايات قابلة للتطبيق وخبرات صالحة للاكتساب.
محمد فاوبار*
* باحث في سوسيولوجيا التربية ـ أكاديمية فاس بولمان
المصــــدر: علامات تربوية العدد 20 ـ 2006
مجلة تربوية ثقافية تصدرها أكاديمية فاس- بولمان مرتين في السنة
المصدر : 1